دوافع ستة:
لماذا تصاعدت دبلوماسية “البنية التحتية” في المنطقة العربية؟

دوافع ستة:

لماذا تصاعدت دبلوماسية “البنية التحتية” في المنطقة العربية؟



تصاعد نمط أطلق عليه في بعض الأدبيات “دبلوماسية البنية التحتية”Infrastructure Diplomacy، وهى لجوء بعض الشركات الحكومية أو الخاصة في عدد من الدول العربية إلى الدخول في مناقصات أو شراكات من شأنها إعادة بناء أو إعمار الدول العربية المتصدعة أو المأزومة أو المتضررة من سقوط نظم سياسية وفوضى صراعات مسلحة وسيطرة ميليشيات مسلحة واستيطان تنظيمات إرهابية، وهو ما عكسته شواهد متعددة مثل تخصيص مصر 500 مليون دولار لإعادة إعمار قطاع غزة بعد المواجهات بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل في الثُلث الأخير من مايو الماضي، وتطلع تونس للمشاركة في إعادة إعمار ليبيا بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في مارس الماضي، ومشاركة الإمارات في معارض إعادة إعمار سوريا، ومساهمة السعودية في إعمار المناطق اليمنية الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية، وتنظيم الكويت مؤتمر دولي لإعادة إعمار العراق في فبراير 2018.

اتجاهات تفسيرية:

وقد تعددت العوامل المفسرة لتبني بعض الدول العربية هذا النمط من الدبلوماسية في علاقاتها البينية، وذلك على النحو التالي:

1- التحول من مرحلة الصراع المسلح إلى السلام المستدام: قد يكون هذا العامل أحد المحددات المفسرة لدعم دبلوماسية البنية التحتية وإعادة الإعمار بعد أكثر من عقد كامل على تحول الحراك الثوري إلى الصراع المسلح في كل من ليبيا واليمن وسوريا، وهو ما يدفع الدول العربية الرئيسية، مثل مصر والإمارات والسعودية، إلى التفكير في إيجاد آليات من شأنها إسكات المدافع بين الأطراف المتنازعة والجلوس على موائد المفاوضات، وتصبح عمليات “إعادة الإعمار” هى أحد ملفات “اليوم التالي” The Day After التي تنشغل بها مؤسسات الدول المتضررة لأن بقاء مخلفات الصراعات يوحي بأنه لم يتغير شئ على أرض الواقع.

ولذا، فإن مصر داعمة لإعادة إعمار ليبيا بسواعد وشركات بناء ومقاولات مصرية. كما أن السعودية توجه مساعدات مالية عبر آليات مختلفة لتعزيز سيطرة الحكومة الشرعية على المناطق المحررة بجنوب اليمن.

2- تثبيت الهدنة بين الأطراف المتنازعة في نقاط الاشتعال: وينطبق ذلك جلياً على ما قامت به مصر للتحول من المواجهات المسلحة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل إلى الأوضاع الطبيعية، حيث أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي، في 18 مايو 2021، تقديم مصر مبلغ 500 مليون دولار كمبادرة تخصص لمصلحة عملية إعادة الإعمار في قطاع غزة، مع قيام الشركات المصرية المتخصصة بالاشتراك في تنفيذ إعادة الإعمار، وهو ما يتفق مع رؤية مصر بضرورة الخروج من الدائرة المفرغة للعنف والعنف المضاد واستعادة الاستقرار بمبادرة استباقية قد تمهد لتثبيت وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والتوصل إلى اتفاق تهدئة طويل الأمد.

3- تجاوز الأبعاد النفسية المتراكمة في العلاقات البينية العربية: ولعل الحالة المعبرة عن ذلك الكويت حينما استضافت مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار العراق بين 12 و14 فبراير 2018، وهو جزء من تحول السياسة الخارجية الكويتية تجاه “دول الضد”، وكان يقصد بها الدول التي وقفت ضد الكويت ودعمت قرار الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في فترة الغزو، وهى (الأردن- منظمة التحرير الفلسطينية- اليمن- السودان- موريتانيا- ليبيا- الجزائر- تونس)، على نحو أسهم في وجود نوع من “الحاجز النفسي” للعلاقات الكويتية مع هذه الدول بعد تحرير الكويت.

وقد قررت الكويت تجاوز هذا “الحاجز النفسي” مع العراق، عبر خطوات إجرائية منها تنظيم مؤتمر لإعادة إعمار العراق، وتعهد المشاركون خلاله تقديم دعم للعراق بما قيمته 30 مليار دولار. ولعل أبرز ما قدمته الكويت في هذا الصدد هو توقيع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، في 11 فبراير 2019، اتفاقية منحة بقيمة 25 مليون دينار كويتي (نحو 85 مليون دولار) مع صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية في المدن العراقية. فضلاً عن إعلان الصندوق الأخير، في 17 أبريل 2021، عن تلقي منحة من الكويت بمبلغ (100 مليون دولار)، توجه لإعادة إعمار البنى التحتية والمشاريع الخدمية في المحافظات المتضررة.

4- الحد من تدخلات القوى الإقليمية في الشئون الداخلية العربية: تنتهج دول عربية دبلوماسية إعادة الإعمار في دول مأزومة منعاً لتدخل قوى إقليمية لتأطير الفراغ العربي على نحو ما تعكسه محاولات التغيير الديموغرافي التي تقوم بها إيران وتركيا في بعض المناطق داخل سوريا. وفي هذا السياق، تشير بعض الكتابات إلى ظاهرة “الدول غير العربية في المنطقة العربية”. ولعل ذلك يفسر مشاركة بعض الدول العربية في ملتقيات ومعارض إعادة الإعمار التي استضافتها العاصمة السورية دمشق منذ سنوات حتى لا يتكرر ما حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.

وفي هذا السياق، يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن مشاركة بعض الدول في عمليات إعادة إعمار الدول المنهارة بالإقليم، يأتي ضمن رغبتها في تحقيق السيطرة وتوسيع النفوذ، فعلى سبيل المثال تريد إيران المشاركة في إعادة إعمار العراق تمهيداً لدور أكبر لميليشياتها في العراق وخاصة ميليشيا “الحشد الشعبي”.

5- تقليص نفوذ التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الرخوة: يشغل الخطر الذي تمثله التنظيمات الإرهابية مكانة مركزية لدى القيادات السياسية والأجهزة الأمنية في العديد من العواصم العربية، التي تسعى لتحقيق الاستقرار المفقود في إقليم تزداد به التحولات السائلة بمعدلات متسارعة. لذا، تسارع بعض الدول لإعادة بناء المناطق التي كانت تستوطنها التنظيمات الإرهابية مثل “داعش” في سوريا والعراق، خلال السنوات (2014-2017). وفي هذا السياق، وقع رئيس الوزراء المصري د.مصطفى مدبولي، في 31 أكتوبر 2020، على 15 مذكرة تفاهم مع نظيره العراقي مصطفى الكاظمي في جميع قطاعات البنية التحتية، والتي ينص بعضها على قيام شركات مصرية بتنفيذ مشروعات تنموية في العراق

6- تعزيز الموارد المالية الناتجة عن تصدير العمالة الوطنية لإعمار الدول العربية: وهو ما تقوم به مصر في ليبيا، بشكل خاص، حيث تعد مصر واحدة من الدول الرئيسية المصدرة للعمالة في الدول العربية، خلال العقود الستة الماضية، وخاصة لدول الخليج والعراق وليبيا. وتسهم التحويلات الخارجية في إنعاش الموازنة العامة، وما يرتبط بذلك من تعميق دور الشركات الوطنية في المنطقة العربية وإكسابها المزيد من الخبرات وصقل مهاراتها في بيئات عمل مختلفة، ما يفتح أبواب العمل لها في دول أخرى.

ولعل ما يحفز بعض الدول العربية على المساهمة في إعادة إعمار دول المنطقة هو هدف تحقيق أرباح لشركات الاستثمار في دول الإعمار، بما يدفع الدول إلى الاستفادة من الكعكة الاقتصادية. وبما أن حالة التردي والتدمير التي شهدتها البنى التحتية لدول الصراعات في المنطقة من فاتورة تكلفة عمليات إعادة الإعمار، فإن تلك الدول سوف تمثل أسواق عمل مربحة ومغرية للشركات الاستثمارية لاسيما شركات المقاولات الكبرى في العالم، وهو الأمر الذي يفسر مسارعة الشركات الاستثمارية للدخول في هذه الأسواق لتحقيق أرباح ومكاسب طائلة في المستقبل لدرجة أن هناك من يرى أن إعادة الإعمار في الدول العربية بعد الحرب هو استمرار الصراع بوسائل أخرى.

أبعاد التعافي:

خلاصة القول، إن المرحلة المقبلة ستشهد تكثيفاً لتواجد دول عربية في حل إشكاليات جميع قطاعات البنية التحتية المتهالكة، من طرق وجسور وأنفاق وكباري وصرف صحي ومرافق متنوعة ومباني سكنية ومقرات حكومية وشبكات كهرباء وحدائق عامة وملاعب رياضية، في دول عربية أخرى، خاصة مع تعقد المشهد الإقليمي، حيث أصبح الحديث عن إعادة الإعمار في الدول المنهارة بالمنطقة أمراً حتمياً بهدف الحفاظ على وحدتها وسلامتها الإقليمية ودرء أي مخاطر أمنية قد تحيط بالأمن الوطني لهذه الدولة العربية أو تلك. فضلاً عن جنى مكاسب اقتصادية بعد الفوز بمناقصات في مجالات مختلفة ومنع الشركات الأجنبية التي تنتمي إلى قوى إقليمية أو دولية من الاستحواذ على عقود إعادة الإعمار بمفردها.